فصل فهذه دلالة على توحيد الأسماء والصفات وأما
دلالة الأسماء
الخمسة عليها وهي الله والرب والرحمن والرحيم والملك فمبنى على
أصلين
أحدهما أن أسماء الرب تبارك وتعالى دالة على صفات كماله فهي
مشتقة من الصفات فهي أسماء وهي أوصاف وبذلك كانت حسنى إذ لو كانت ألفاظا لا معانى فيها
لم تكن حسنى ولا كانت دالة على مدح ولا كمال ولساغ وقوع أسماء الإنتقام والغضب في مقام
الرحمة والإحسان وبالعكس فيقال اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت المنتقم واللهم
أعطني فإنك أنت الضار المانع ونحو ذلك
ونفي معاني أسمائه الحسنى من أعظم الإلحاد فيها قال تعالى 7
170 وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ولأنها لو لم تدل على معان
وأوصاف لم يجز أن يخبر عنها بمصادرها ويوصف بها لكن الله أخبر عن نفسه بمصادرها وأثبتها
لنفسه وأثبتها له رسوله كقوله تعالى 51 58 إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين فعلم
أن القوى من أسمائه ومعناه الموصوف بالقوة وكذلك قوله 35 10 فلله العزة جميعا فالعزيز
من له العزة فلولا ثبوت القوة والعزة له لم يسم قويا ولا عزيزا وكذلك قوله 4 166 أنزله
بعلمه 11 14 فاعلموا أنما أنزل بعلم الله 2 255 ولا يحيطون بشيء من علمه
وفي الصحيح عن النبي إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض
القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل
الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه
بصره من خلقه فأثبت المصدر الذي اشتق منه اسمه البصير
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها الحمد لله الذي وسع
سمعه الأصوات
وفي الصحيحح حديث الإستخارة اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك
بقدرتك فهو قادر بقدرة
وقال تعالى لموسى 7 144 إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي
فهو متكلم بكلام
وهو العظيم الذي له العظمة كما في الصحيح عنه يقول الله تعالىالعظمة
إزاري والكبرياء ردائي وهو الحكيم الذي له الحكم 40 12 فالحكم لله العلي الكبير وأجمع
المسلمون أنه لو حلف بحياة الله أو سمعه أو بصره أو قوته أو عزته أو عظمته انعقدت يمينه
وكانت مكفرة لأن هذه صفات كماله التي اشتقت منها أسماؤه
وأيضا لو لم تكن أسماؤه مشتملة على معان وصفات لم يسغ أن يخبر
عنه بأفعالها فلا يقال يسمع ويرى ويعلم ويقدر ويريد فإن ثبوت أحكام الصفات فرع ثبوتها
فإذا انتقى أصل الصفة استحال ثبوت حكمها
وأيضا فلو لم تسكن أسماؤه ذوات معان وأوصاف لكانت جامدة كالأعلام
المحضة التي لم توضع لمسماها باعتبار معنى قام به فكانت كلها سواء ولم يكن فرق بين
مدلولاتها وهذا مكابرة صريحة وبهت بين فإن من جعل معنى اسم القدير هو معنى اسم السميع
البصير ومعنى اسم التواب هو معنى اسم المنتقم ومعنى اسم المعطي هو معنى اسم المانع
فقد كابر العقل واللغة والفطرة
فنفي معاني أسمائه من أعظم الإلحاد فيها والإلحاد فيها أنواع
هذا أحدها
الثاني تسمية الأوثان بها كما يسمونها آلهة وقال ابن عباس ومجاهد
عدلوا بأسماء الله تعالى عما هي عليه فسموا بها أوثانهم فزادوا ونقصوا فاشتقوا اللات
من الله والعزى من العزيز ومناة من المنان وروي عن ابن عباس يلحدون في أسمائه يكذبون
عليه وهذا تفسير بالمعنى
وحقيقة الإلحاد فيها العدول بها عن الصواب فيها وإدخال ما ليس
من معانيها فيها وإخراج حقائق معانيها عنها هذا حقيقة الإلحاد ومن فعل ذلك فقد كذب
على الله ففسر ابن عباس الإلحاد بالكذب أو هو غاية الملحد في أسمائه تعالى فإنه إذا
أدخل في معانيها ما ليس منها وخرج بها عن حقائقها أو بعضها فقد عدل بها عن الصواب والحق
وهو حقيقة الإلحاد
فالإلحاد إما بجحدها وإنكارها وإما بجحد معانيها وتعطيلها وإما
بتحريفها عن الصواب وإخراجها عن الحق بالتأويلات الباطلة وإما بجعلها أسماء لهذه المخلوقات
المصنوعات كإلحاد أهل الإتحاد فإنهم جعلوها أسماء هذا الكون محمودها ومذمومها حتى قال
زعيمهم وهو المسمى بكل اسم ممدوح عقلا وشرعا وعرفا وبكل اسم مذموم عقلا وشرعا وعرفا
تعالى الله عما يقول الملحدون علوا كبيرا
فصل الأصل الثاني أن الإسم من أسمائه تبارك وتعالى
كما يدل على
الذات والصفة التي اشتق منها بالمطابقة فإنه يدل عليه دلالتين
أخريين بالتضمن واللزوم فيدل على الصفة بمفردها بالتضمن وكذلك على الذات المجردة عن
الصفة ويدل على الصفة الأخرى باللزوم فإن اسم السميع يدل على ذات الرب وسمعه بالمطابقة
وعلى الذات وحدها وعلى السمع وحده بالتضمن ويدل على اسم الحي وصفة الحياة بالإلتزام
وكذلك سائر أسمائه وصفاته ولكن يتفاوت الناس
في معرفة اللزوم وعدمه ومن ههنا يقع اختلافهم في كثير من الأسماء
والصفات والأحكام فإن من علم أن الفعل الإختياري لازم للحياة وأن السمع والبصر لازم
للحياة الكاملة وأن سائر الكمال من لوازم الحياة الكاملة أثبت من أسماء الرب وصفاته
وأفعاله ما ينكره من لم يعرف لزوم ذلك ولا عرف حقيقة الحياة ولوازمها وكذلك سائر صفاته
فإن اسم العظيم له لوازم ينكرها من لم يعرف عظمة الله ولوازمها
وكذلك اسم العلي واسم الحكيم وسائر أسمائه فإن من لوازم اسم
العلي العلو المطلق بكل اعتبار فله العلو المطلق من جميع الوجوه علو القدر وعلو القهر
وعلو الذات فمن جحد علو الذات فقد جحد لوازم اسمه العلي
وكذلك اسمه الظاهر من لوازمه أن لا يكون فوقه شيء كما في الصحيح
عن النبي وأنت الظاهر فليس فوقك شيء بل هو سبحانه فوق كل شيء فمن جحد فوقيته سبحانه
فقد جحد لوازم اسمه الظاهر ولا يصح أن يكون الظاهر هو من له فوقية القدر فقط كما يقال
الذهب فوق الفضة والجوهر فوق الزجاج لأن هذه الفوقية تتعلق بالظهور بل قد يكون المفوق
أظهر من الفائق فيها ولا يصح أن يكون ظهور القهر والغلبة فقط وإن كان سبحانه ظاهرا
بالقهر والغلبة لمقابلة الإسم الباطن وهو الذي ليس دونه شيء كما قابل الأول الذي ليس
قبله شيء ب الآخر الذي ليس بعده شيء
وكذلك اسم الحكيم من لوازمه ثبوت الغايات المحمودة المقصودة
له بأفعاله ووضعه الأشياء في مواضعها وإيقاعها على أحسن الوجوه فإنكار ذلك إنكار لهذا
الإسم ولوازمه وكذلك سائر أسمائه الحسنى
فصل إذا تقرر هذان الأصلان فاسم الله دال على جميع
الأسماء الحسنى
والصفات العليا بالدلالات الثلاث فإنه دال على إلهيته المتضمنة
لثبوت صفات الإلهية له مع نفي أضدادها عنه
وصفات الإلهية هي صفات الكمال المنزهة عن التشبيه والمثال وعن
العيوب والنقائص ولهذا يضيف الله تعالى سائر الأسماء الحسنى إلى هذا الإسم العظيم كقوله
تعالى 7 180 ولله الأسماء الحسنى ويقال الرحمن والرحيم والقدوس والسلام والعزيز والحكيم
من أسماء الله ولا يقال الله من أسماء الرحمن ولا من أسماء العزيز ونحو ذلك
فعلم أن اسمه الله مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى دال عليها
بالإجمال والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الإلهية التي اشتق منها اسم الله واسم
الله دال على كونه مألوها معبودا تألهه الخلائق محبة وتعظيما وخضوعا وفزعا
إليه في الحوائج والنوائب وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته
المتضمنين لكمال الملك والحمد وإلهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه مستلزم لجميع صفات
كماله إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي ولا سميع ولا بصير ولا قادر ولا متكلم ولا فعال
لما يريد ولا حكيم في أفعاله
وصفات الجلال والجمال أخص باسم الله
وصفات الفعل والقدرة والتفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع ونفوذ
المشيئة وكمال القوة وتدبير أمر الخليقة أخص باسم الرب
وصفات الإحسان والجود والبر والحنان والمنة والرأفة واللطف أخص
باسم الرحمن وكرر إيذانا بثبوت الوصف وحصول أثره وتعلقه بمتعلقاته
فالرحمن الذي الرحمة وصفه والرحيم الراحم لعباده ولهذا يقول
تعالى 33 43 وكان بالمؤمنين رحيما 9 117 إنه بهم رءوف رحيم ولم يجيء رحمان بعباده ولا
رحمان بالمؤمنين مع ما في اسم الرحمن الذي هو على وزن فعلان من سعة هذا الوصف وثبوت
جميع معناه الموصوف به
ألا ترى أنهم يقولون غضبان للممتليء غضبا وندمان وحيران وسكران
ولهفان لمن ملىء بذلك فبناء فعلان للسعة والشمول ولهذا يقرن استواءه على العرش بهذا
الإسم كثيرا كقوله تعالى 20 5 الرحمن على العرش استوى 26 59 ثم استوى على العرش الرحمن
فاستوى على عرشه باسم الرحمن لأن العرش محيط بالمخلوقات قد وسعها والرحمة محيطة بالخلق
واسعة لهم كما قال تعالى 7 156 ورحمتي وسعت كل شيء فاستوى على أوسع المخلوقات بأوسع
الصفات فلذلك وسعت رحمته كل شيء وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال
رسول الله لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده موضوع على العرش إن رحمتي تغلب
غضبي وفي لفظ فهو عنده على العرش
فتأمل اختصاص هذا الكتاب بذكر الرحمة ووضعه عنده على العرش وطابق
بين ذلك وبين قوله الرحمن على العرش استوى وقوله 25 156 ثم استوى على العرش الرحمن
فاسأل به خبيرا ينفتح لك باب عظيم من معرفة الرب تبارك وتعالى إن لم يغلقه عنك التعطيل
والتجهم
وصفات العدل والقبض والبسط والخفض والرفع والعطاء والمنع والإعزاز
والإذلال والقهر والحكم ونحوها أخص باسم الملك وخصه بيوم الدين وهو الجزاء بالعدل لتفرده
بالحكم فيه وحده ولأنه اليوم الحق وما قبله كساعة ولأنه الغاية وأيام الدنيا مراحل
إليه
فصل وتأمل ارتباط الخلق والأمر بهذه الأسماء الثلاثة
وهي الله
والرب والرحمن كيف نشأ عنها الخلق والأمر والثواب والعقاب وكيف
جمعت الخلق وفرقتهم فلها الجمع ولها الفرق
فاسم الرب له الجمع الجامع لجميع المخلوقات فهو رب كل شيء وخالقه
والقادر عليه لا يخرج شيء عن ربوبيته وكل من في السموات والأرض عبد له في قبضته وتحت
قهره فاجتمعوا بصفة الربوبية وافترقوا بصفة الإلهية فألهه وحده السعداء وأقروا له طوعا
بأنه الله الذي لا إله إلا هو الذي لا تنبغي العبادة والتوكل والرجاء والخوف والحب
والإنابة والإخبات والخشية والتذلل والخضوع إلا له
وهنا افترق الناس وصاروا فريقين فريقا مشركين في السعير وفريقا
موحدين في الجنة
فالإلهية هي التي فرقتهم كما أن الربوبية هي التي جمعتهم
فالدين والشرع والأمر والنهي مظهره وقيامه من صفة الإلهية والخلق
والإيجاد والتدبير والفعل من صفة الربوبية والجزاء بالثواب والعقاب
والجنة والنار من صفة الملك وهو ملك يوم الدين فأمرهم بإلهيته وأعانهم ووفقهم وهداهم
وأضلهم بربوبيته وأثابهم وعاقبهم بملكه وعدله وكل واحدة من هذه الأمور لا تنفك عن الأخرى
وأما الرحمة فهي التعلق والسبب الذي بين الله وبين عباده فالتأليه
منهم له والربوبية منه لهم والرحمة سبب واصل بينه وبين عباده بها أرسل إليهم رسله وأنزل
عليهم كتبه وبها هداهم وبها أسكنهم دار ثوابه وبها رزقهم وعافاهم وأنعم عليهم فبينهم
وبينه سبب العبودية وبينه وبينهم سبب الرحمة
واقتران ربوبيته برحمته كاقتران استوائه على عرشه برحمته ف الرحمن
على العرش استوى مطابق لقوله رب العالمين الرحمن الرحيم فإن شمول الربوبية وسعتها بحيث
لا يخرج شيء عنها أقصى شمول الرحمة وسعتها فوسع كل شيء برحمته وربوبيته مع أن في كونه
ربا للعالمين ما يدل على علوه على خلقه وكونه فوق كل شيء كما يأتي بيانه إن شاء الله
فصل في ذكر هذه الأسماء بعد الحمد وإيقاع الحمد
على مضمونها
ومقتضاها ما يدل على أنه محمود في إلهيته محمود في ربوبيته محمود
في رحمانيته محمود في ملكه وأنه إله محمود ورب محمود ورحمان محمود وملك محمود فله بذلك
جميع أقسام الكمال كمال من هذا الإسم بمفرده وكمال من الآخر بمفرده وكمال من اقتران
أحدهما بالآخر
مثال ذلك قوله تعالى والله غني حميد والله عليم حكيم والله قدير
والله غفور رحيم فالغنى صفة كمال والحمد صفة كمال واقتران غناه بحمده كمال
أيضا وعلمه كمال وحكمته كمال واقتران العلم بالحكمة كمال أيضا
وقدرته كمال ومعفرته كمال واقتران القدرة بالمغفرة كمال وكذلك العفو بعد القدرة 4
14 إن الله كان عفوا قديرا واقتران العلم بالحلم 4 11 والله عليم حليم
وحملة العرش أربعة اثنان يقولان سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد
على حلمك بعد علمك واثنان يقولان سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك
فما كل من قدر عفا ولا كل من عفا يعفو عن قدرة ولا كل من علم يكون حليما ولا كل حليم
عالم فما قرن شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم ومن عفو إلى قدرة ومن ملك إلى حمد ومن
عزة إلى رحمة 26 9 وإن ربك لهو العزيز الرحيم ومن ههنا كان قول المسيح عليه السلام
5 121 إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم أحسن من أن يقول
وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم أي إن غفرت لهم كان مصدر مغفرتك عن عزة وهي كمال
القدرة وعن حكمة وهي كمال العلم فمن غفر عن عجز وجهل بجرم الجاني لا يكون قادرا حكيما
عليما بل لا يكون ذلك إلا عجزا فأنت لا تغفر إلا عن قدرة تامة وعلم تام وحكمة تضع بها
الأشياء مواضعها فهذا أحسن من ذكر الغفور الرحيم في هذا الموضع الدال ذكره على التعريض
بطلب المغفرة في غير حينها وقد فاتت فإنه لو قال وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم
كان في هذا من الإستعطاف والتعريض بطلب المغفرة لمن لا يستحقها ما ينره عنه منصب المسيح
عليه السلام لا سيما والموقف موقف عظمة وجلال وموقف انتقام ممن جعل لله ولدا واتخذه
إلها من دونه فذكر العزة والحكمة فيه أليق من ذكر الرحمة والمغفرة وهذا بخلاف قول الخليل
عليه السلام 14 35 و36 واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس
فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ولم يقل
فإنك عزيز حكيم لأن المقام استعطاف وتعريض بالدعاء أي إن تغفر
لهم وترحمهم بأن توفقهم للرجوع من الشرك إلى التوحيد ومن المعصية إلى الطاعة كما في
الحديث اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون
وفي هذا أظهر الدلالة على أن أسماء الرب تعالى مشتقة من أوصاف
ومعان قامت به وأن كل اسم يناسب ما ذكر معه واقترن به من فعله وأمره والله الموفق للصواب
فصل في مراتب الهداية الخاصة والعامة وهي عشر مراتب
المرتبة
الأولى مرتبة تكليم الله عز وجل لعبده يقظة بلا واسطة بل منه
إليه وهذه أعلى مراتبها كما كلم موسى بن عمران صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه قال
الله تعالى 4 163 وكلم الله موسى تكليما فذكر في أول الآية وحيه إلى نوح والنبيين من
بعده ثم خص موسى من بينهم بالإخبار بأنه كلمه وهذا يدل على أن التكليم الذي حصل له
أخصمن مطلق الوحي الذي ذكر في أول الآية ثم أكده بالمصدر الحقيقي الذي هو مصدر كلم
هو التكليم رفعا لما يتوهمه المعطلة والجهمية والمعتزلة وغيرهم من أنه إلهام أو إشارة
أو تعريف للمعنى النفسي بشيء غير التكليم فأكده بالمصدر المفيد تحقيق النسبة ورفع توهم
المجاز قال الفراء العرب تسمى ما يوصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ولكن لا تحققه
بالمصدر فإذا حققته بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام كالإرادة يقال فلان أراد إرادة
يريدون حقيقة الإرادة ويقال أراد الجدار ولا يقال إرادة لأنه مجاز غير حقيقة هذا كلامه
وقال تعالى 7 142 ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك وهذا التكليم
غير التكليم الأول الذي أرسله به إلى فرعون وفي هذا التكليم
الثاني سأل النظر لا في الأول وفيه أعطى الألواح وكان عن مواعدة
من الله له والتكليم الأول لم يكن عن مواعدة وفيه قال الله له 7 143 يا موسى إني اصطفيتك
على الناس برسالاتي وبكلامي أي بتكليمي لك بإجماع السلف
وقد أخبر سبحانه في كتابه أنه ناداه وناجاه فالنداء من بعد والنجاء
من قرب تقول العرب إذا كبرت الحلقة فهو نداء أو نجاء وقال له أبوه آدم في محاجته أنت
موسى الذي اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده وكذلك يقوله له أهل الموقف إذا طلبوا
منه الشفاعة إلى ربه وكذلك في حديث الإسراء في رؤية موسى في السماء السادسة أو السابعة
على اختلاف الرواية قال وذلك بتفضيله بكلام الله ولو كان التكليم الذي حصل له من جنس
ما حصل لغيره من الأنبياء لم يكن لهذا التخصيص به في هذه الأحاديث معنى ولا كان يسمى
كليم الرحمن وقال تعالى 42 51 وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب
أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ففرق بين تكليم الوحي والتكليم بإرسال الرسول والتكليم
من وراء حجاب
فصل المرتبة الثانية مرتبة الوحي المختص بالأنبياء
قال الله تعالى
4 126 - إنا أوحينا إليك كما أوحينا
إلى نوح والنبيين من بعده وقال 42 51 وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء
حجاب الآية فجعل الوحي في هذه الآية قسما من أقسام التكليم وجعله في آية النساء قسيما
للتكليم وذلك باعتبارين فإنه قسيم التكليم الخاص الذي هو بلا واسطة وقسم من التكليم
العام الذي هو إيصال المعنى بطرق متعددة
والوحي في اللغة هو الإعلام السريع الخفي ويقال في فعله وحى
وأوحى قال رؤية وحى لها القرار فاستقرت وهو أقسام كما سنذكره
فصل المرتبة الثالثة إرسال الرسول الملكي إلى الرسول
البشري فيوحى
إليه عن الله ما أمره أن يوصله إليه
فهذه المراتب الثلاث خاصة بالأنبياء لا تكون لغيرهم
ثم هذا الرسول الملكي قد يتمثل للرسول البشرى رجلا يراه عيانا
ويخاطبه وقد يراه على صورته التي خلق عليها وقد يدخل فيه الملك ويوحى إليه ما يوحيه
ثم يفصم عنه أي يقلع والثلاثة حصلت لنبينا
فصل المرتبة الرابعة مرتبة التحديث وهذه دون مرتبة
الوحي الخاص
وتكون دون مرتبة الصديقين كما كانت لعمر بن الخطاب رضي الله
عنه كما قال النبي إنه كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في هذه الأمة فعمر بن الخطاب
/ ح
/
وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله يقول جزم بأنهم
كائنون في الأمم قبلنا وعلق وجودهم في هذه الأمة ب إن الشرطية مع أنها أفضل الأمم لاحتياج
الأمم قبلنا إليهم واستغناء هذه الأمة عنهم بكمال نبيها ورسالته فلم يحوج الله الأمة
بعده إلى محدث ولا ملهم ولا صاحب كشف ولا منام فهذا التعليق لكمال الأمة واستغنائها
لا لنقصها
والمحدث هو الذي يحدث في سره وقلبه بالشيء فيكون كما يحدث به
قال شيخنا والصديق أكمل من المحدث لأنه استغنى بكمال صديقيته
ومتابعته عن التحديث والإلهام والكشف فإنه قد سلم قلبه كله وسره
وظاهره وباطنه للرسول فاستغنى به عما منه
قال وكان هذا المحدث يعرض ما يحدث به على ما جاء به الرسول فإن
وافقه قبله وإلا رده فعلم أن مرتبة الصديقية فوق مرتبة التحديث
قال وأما ما يقوله كثير من أصحاب الخيالات والجهالات حدثني قلبي
عن ربي فصحيح أن قلبه حدثه ولكن عمن عن شيطانه أو عن ربه فإذا قال حدثني قلبي عن ربي
كان مسندا الحديث إلى من لم يعلم أنه حدثه به وذلك كذب قال ومحدث الأمة لم يكن يقول
ذلك ولا تفوه به يوما من الدهر وقد أعاذه الله من أن يقول ذلك بل كتب كاتبه يوما هذا
ما أرى الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقال لا امحه واكتب هذا ما رأى عمر بن الخطاب
فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمن عمر والله ورسوله منه برىء وقال في الكلالة
أقول فيها برأيى فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان فهذا قول المحدث
بشهادة الرسول وأنت ترى الإتحادي والحلولي والإباحي الشطاح والسماعي مجاهر بالقحة والفرية
يقول حدثني قلبي عن ربي
فانظر إلى ما بين القائلين والمرتبتين والقولين والحالين وأعط
كل ذي حق حقه ولا تجعل الزغل والخالص شيئا واحدا
فصل المرتبة الخامسة مرتبة الإفهام قال الله تعالى
وداود
وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم
شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما فذكر هذين النبيين الكريمين وأثنى عليهما
بالعلم والحكم وخص سليمان بالفهم في هذه الواقعة المعينة وقال على ابن أبي طالب وقد
سئل هل خصكم رسول الله بشيء دون الناس فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلافهما
يؤتيه الله عبدا في كتابه وما في هذه الصحيفة وكان فيها العقل وهو الديات وفكاك الأسير
وأن لا يقتل مسلم بكافر وفي كتاب عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما والفهم
الفهم فيما أدلى إليك فالفهم نعمة من الله على عبده ونور يقذفه الله في قلبه يعرف به
ويدرك مالا يدركه غيره ولا يعرفه فيفهم من النص مالا يفهمه غيره مع استوائهما في حفظه
وفهم أصل معناه
فالفهم عن الله ورسوله عنوان الصديقية ومنشور الولاية النبوية
وفيه تفاوتت مراتب العلماء حتى عد ألف بواحد فانظر إلى فهم ابن عباس وقد سأله عمر ومن
حضر من أهل بدر وغيرهم عن سورة إذا جا نصر الله والفتح وما خص به ابن عباس من فهمه
منها أنها نعى الله سبحانه نبيه إلى نفسه وإعلامه بحضور أجله وموافقة عمر له على ذلك
وخفائه عن غيرهما من الصحابة وابن عباس إذ ذاك أحدثهم سنا وأين تجد في هذه السورة الإعلام
بأجله لولا الفهم الخاص ويدق هذا حتى يصل إلى مراتب تتقاصر عنها أفهام أكثر الناس فيحتاج
مع النص إلى غيره ولا يقع الإستغناء بالنصوص في حقه وأما في حق صاحب الفهم فلا يحتاج
مع النصوص إلى غيرها
فصل المرتبة السادسة مرتبة البيان العام وهو تبيين
الحق وتمييزه من
الباطل بأدلته وشواهده وأعلامه بحيث يصير مشهودا للقلب كشهود
العين للمرئيات وهذه المرتبة هي حجة الله على خلقه التي لا يعذب أحدا ولا يضله إلا
بعد وصوله إليها قال الله تعالى 9 115 وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين
لهم ما يتقون فهذا الإضلال عقوبة منه لهم حين بين لهم فلم يقبلوا ما بينه لهم ولم يعملوا
به فعاقبهم بأن أضلهم عن الهدى وما أضل الله سبحانه أحدا قط إلا بعد هذا البيان
وإذا عرفت هذا عرفت سر القدر وزالت عنك شكوك كثيرة وشبهات في
هذا الباب وعلمت حكمة الله في إضلاله من يضله من عباده والقرآن يصرح بهذا في غير موضع
كقوله 61 5 فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم 4 155 وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها
بكفرهم فالأول كفر عناد والثاني كفر طبع وقوله 6 110 ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم
يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون فعاقبهم على ترك الإيمان به حين تيقنوه
وتحققوه بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم فلم يهتدوا له
فتأمل هذا الموضع حق التأمل فإنه موضع عظيم
وقال تعالى 41 17 وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى
فهذا هدى بعد البيان والدلالة وهو شرط لا موجب فإنه إن لم يقترن به هدى آخر بعده لم
يحصل به كمال الإهتداء وهو هدى التوفيق والإلهام
وهذا البيان نوعان بيان بالآيات المسموعة المتلوة وبيان بالآيات
المشهودة المرئية وكلاهما أدلة وآيات على توحيد الله وأسمائه وصفاته وكماله وصدق ما
أخبرت به رسله عنه ولهذا يدعو عباده بآياته المتلوة إلى التفكير في آياته المشهودة
ويحضهم على التفكر في هذه وهذه وهذا البيان هو الذي بعثت به
الرسل وجعل إليهم وإلى العلماء بعدهم وبعد ذلك يضل الله من يشاء قال الله تعالى 64
4 وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو
العزيز الحكيم فالرسل تبين والله هو الذي يضل من يشاء ويهدي من يشاء بعزته وحكمته
فصل المرتبة السابعة البيان الخاص وهو البيان المستلزم
للهداية
الخاصة وهو بيان تقارنه العناية والتوفيق والإجتباء وقطع أسباب
الخذلان وموادها عن القلب فلا تتخلف عنه الهداية ألبتة قال تعالى في هذه المرتبة
16 37 إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وقال 38 56 إنك لا تهدي من أحببت
ولكن الله يهدي من يشاء فالبيان الأول شرط وهذا موجب
فصل المرتبة الثامنة مرتبة الإسماع قال الله تعالى
ولو علم
الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون وقد قال
تعالى 35 22 وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما
يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت
إلا نذير وهذا الإسماع أخص من إسماع الحجة والتبليغ فإن ذلك حاصل لهم وبه قامت الحجة
عليهم لكن ذاك إسماع الآذان وهذا إسماع القلوب فإن الكلام له لفظ ومعنى وله نسبة إلى
الآذان والقلب وتعلق بهما فسماع لفظه حظ الأذن وسماع حقيقة معناه ومقصوده حظ القلب
فإنه سبحانه نفى عن الكفار سماع المقصود والمراد الذي هو حظ القلب وأثبت لهم سماع الألفاظ
الذي هو حظ الأذن
في قوله 21 2 ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم
يلعبون لاهية قلوبهم وهذا السماع لا يفيد السامع إلا قيام الحجة عليه أو تمكنه منها
وأما مقصود السماع وثمرته والمطلوب منه فلا يحصل مع لهو القلب
وغفلته وإعراضه بل يخرج السامع قائلا للحاضر معه 47 16 ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع
الله على قلوبهم
والفرق بين هذه المرتبة ومرتبة الإفهام أن هذه المرتبة إنما
تحصل بواسطة الأذن ومرتبة الإفهام أعم فهي أخص من مرتبة الفهم من هذا الوجه ومرتبة
الفهم أخص من وجه آخر وهي أنها تتعلق بالمعنى المراد ولوازمه ومتعلقاته وإشاراته ومرتبة
السماع مدارها على إيصال المقصود بالخطاب إلى القلب ويترتب على هذا السماع سماع القبول
فهو إذن ثلاث مراتب سماع الأذن وسماع القلب وسماع القبول والإجابة
فصل المرتبة التاسعة مرتبة الإلهام قال تعالى ونفس
وما
سواها فألهمها فجورها وتقواها وقال النبي لحصير بن منذر الخزاعي
لما أسلم قل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي
وقد جعل صاحب المنازل الإلهام هو مقام المحدثين قال وهو فوق
مقام الفراسة لأن الفراسة ربما وقعت نادرة واستصعبت على صاحبها وقتا أو استعصت عليه
والإلهام لا يكون إلا في مقام عتيد
قلت التحديث أخص من الإلهام فإن الإلهام عام للمؤمنين بحسب إيمانهم
فكل مؤمن فقد ألهمه الله رشده الذي حصل له به الإيمان فأما التحديث فالنبي قال فيه
إن يكن في هذه الأمة أحد فعمر يعني من المحدثين فالتحديث إلهام خاص وهو الوحي إلى غير
الأنبياء
إما من المكلفين كقوله تعالى 28 7 وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه
وقوله 5 111 وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي وإما من غير المكلفين كقوله
تعالى 16 29 وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون فهذا
كله وحي إلهام
وأما جعله فوق مقام الفراسة فقد احتج عليه بأن الفراسة ربما
وقعت نادرة كما تقدم والنادر لا حكم له وربما استعصت على صاحبها واستصعبت عليه فلم
تطاوعه والإلهام لا يكون إلا في مقام عتيد يعني في مقام القرب والحضور
والتحقيق في هذا أن كل واحد من الفراسة والإلهام ينقسم إلى عام
وخاص وخاص كل واحد منهما فوق عام الآخر وعام كل واحد قد يقع كثيرا وخاصة قد يقع نادرا
ولكن الفرق الصحيح أن الفراسة قد تتعلق بنوع كسب وتحصيل وأما الإلهام فموهبة مجردة
لا تنال بكسب ألبتة
فصل قال وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى نبأ
يقع وحيا قاطعا
مقرونا بسماع إذ مطلق النبأ الخبر الذي له شأن فليس كل خبر نبأ
وهو نبأ خبر عن غيب معظم
ويريد بالوحي والإلهام الإعلام الذي يقطع من وصل إليه بموجبه
إما بواسطة سمع أو هو الإعلام بلا واسطة
قلت أما حصوله بواسطة سمع فليس ذلك إلهاما بل هو من قبيل الخطاب
وهذا يستحيل حصوله لغير الأنبياء وهو الذي خص به موسى إذ كان المخاطب هو الحق عز وجل
وأما ما يقع لكثير من أرباب الرياضات من سماع فهو من أحد وجوه
ثلاثة لا رابع لها أعلاها أن يخاطبه الملك خطابا جزئيا فإن هذا يقع لغير الأنبياء فقد
كانت الملائكة تخاطب عمران بن حصين بالسلام فلما اكتوى تركت خطابه فلما ترك الكي عاد
إليه خطاب ملكي وهو نوعان
أحدها خطاب يسمعه بأذنه وهو نادر بالنسبة إلى عموم المؤمنين
والثاني خطاب يلقى في قلبه يخاطب به الملك روحه كما في الحديث
المشهور إن للملك لمة بقلب ابن آدم وللشيطان لمة فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالوعد
ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالوعد ثم قرأ 2 268 الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم
بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا وقال تعالى 8 12 إذ يوحى ربك إلى الملائكة أني
معكم فثبتوا الذين آمنوا قيل في تفسيرها قووا قلوبهم وبشروهم بالنصر وقيل احضروا معهم
القتال والقولان حق فإنهم حضروا معهم القتال وثبتوا قلوبهم
ومن هذا الخطاب واعظ الله عز وجل في قلوب عباده المؤمنين كما
في جامع الترمذي ومسند أحمد من حديث النواس بن سمعان عن النبي إن الله تعالى ضرب مثلا
صراطا مستقيما وعلى كنفتي الصراط سوران لهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وداع
يدعو على رأس الصراط وداع يدعو فوق الصراط فالصراط المستقيم الإسلام والسوران حدود
الله والأبواب المفتحة محارم الله فلا يقع أحد في حد من حدود الله حتى يكشف الستر والداعي
على رأس الصراط كتاب الله والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن فهذا الواعظ
في قلوب المؤمنين هو الإلهام الإلهي بواسطة الملائكة
وأما وقوعه بغير واسطة فمما لم يتبين بعد والجزم فيه بنفي أو
إثبات موقوف على الدليل والله أعلم
فصل النوع الثاني من الخطاب المسموع خطاب الهواتف
من الجان وقد
يكون المخاطب جنيا مؤمنا صالحا وقد يكون شيطانا وهذا أيضا نوعان
أحدهما أن يخاطبه خطابا يسمعه بأذنه
والثاني أن يلقى في قلبه عند ما يلم به ومنه وعده وتمنيته حين
يعد الإنسى ويمنيه ويأمره وينهاه كما قال تعالى 4 120 يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان
إلا غرورا وقال الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء وللقلب من هذا الخطاب نصيب وللأذن
أيضا منه نصيب والعصمة منتفية إلا عن الرسل ومجموع الأمة
فمن أين للمخاطب أن هذا الخطاب رحماني أو ملكي بأي برهان أو
بأي دليل والشيطان يقذف في النفس وحيه ويلقى في السمع خطابه فيقول المغرور المخدوع
قيل لي وخوطبت صدقت لكن الشأن في القائل لك والمخاطب وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله
عنه لغيلان بن سلمة وهو من الصحابة لما طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه إني لأظن الشيطان
فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك فمن يأمن القراء بعدك يا شهر
فصل النوع الثالث خطاب حالي تكون بدايته من النفس
وعوده إليها
فيتوهمه من خارج وإنما هو من نفسه منها بدا وإليها يعود
وهذا كثيرا ما يعرض للسالك فيغلط فيه ويعتقد أنه خطاب من الله
كلمه به منه إليه وسبب غلطه أن اللطيفة المدركة من الإنسان إذا صفت بالرياضة وانقطعت
علقها عن الشواغل الكثيفة صار الحكم لها بحكم إستيلاء الروح والقلب على البدن ومصير
الحكم لهما فتنصرف عناية النفس والقلب إلى تجريد المعاني التي هي متصلة بهما وتشتد
عناية الروح بها وتصير في محل
تلك العلائق والشواغل فتملأ القلب فتصرف تلك المعاني إلى المنطق
والخطاب القلبي الروحي بحكم العادة ويتفق تجرد الروح فتتشكل تلك المعاني للقوة السامعة
بشكل الأصوات المسموعة وللقوة الباصرة بشكل الأشخاص المرئية فيرى صورها ويسمع الخطاب
وكله في نفسه ليس في الخارج منه شيء ويحلف أنه رأى وسمع وصدق لكن رأى وسمع في الخارج
أو في نفسه ويتفق ضعف التمييز وقلة العلم واستيلاء تلك المعاني على الروح وتجردها عن
الشواغل
فهذه الوجوه الثلاثة هي وجوه الخطاب ومن سمع نفسه غيرها فإنما
هو غرور وخدع وتلبيس وهذا الموضع مقطع القول وهو من أجل المواضع لمن حققه وفهمه والله
الموفق للصواب
فصل قال الدرجة الثانية إلهام يقع عيانا وعلامة
صحته أنه لا يخرق
سترا ولا يجاوز حدا ولا يخطىء أبدا
الفرق بين هذا وبين الإلهام في الدرجة الأولى أن ذلك علم شبيه
بالضروري الذي لا يمكن دفعه عن القلب وهذا معاينة ومكاشفة فهو فوقه في الدرجة وأتم
منه ظهورا ونسبته إلى القلب نسبة المرئي إلى العين وذكر له ثلاث علامات
إحداها أنه لا يخرق سترا أي صاحبه إذا كوشف بحال غير المستور
عنه لا يخرق ستره ويكشفه خيرا كان أو شرا أو أنه لا يخرق ما ستره الله من نفسه عن الناس
بل يستر نفسه ويستر من كوشف بحاله
الثانية أنه لا يجاوز حدا يحتمل وجهين
أحدهما أنه لا يتجاوز به إلى ارتكاب المعاصي وتجاوز حدود الله
مثل الكهان وأصحاب الكشف الشيطاني
الثاني أنه لا يقع على خلاف الحدود الشرعية مثل أن يتجسس به
على
العورات التي نهى الله عن التجسس عليها وتتبعها فإذا تتبعها
وقع عليها بهذا الكشف فهو شيطاني لا رحماني
الثالثة أنه لا يخطىء أبدا بخلاف الشيطاني فإن خطأه كثير كما
قال النبي لابن صائد ما ترى قال أرى صادقا وكاذبا فقال لبس عليك فالكشف الشيطاني لا
بد أن يكذب ولا يستمر صدقه ألبتة
فصل قال الدرجة الثالثة إلهام يجلو عين التحقيق
صرفا وينطق عن عين
الأزل محضا والإلهام غاية تمتنع الإشارة إليها
عين التحقيق عنده هي الفناء