ابن الملك كان رجل من ملوك
بني إسرائيل ، قد أعطي طول عمر و كثرة أموال و كثرة أولاد ، وكان أولاده إذا كبر
أحدهم لبس ثياب الشعر ، و لحق بالجبال ، و أكل من الشجر ، و ساح في الأرض حتى يأتيه
الموت .. ففعل ذلك جماعتين .. رجل بعد رجل ثم تتابع بنوه على ذلك .
وأصاب ولداً بعد كبر ، فدعا قومه ، فقال : إني قد أصبت ولداً بعدما كبرت ، وترون
شفقتي عليكم ، و إني أخاف أن يتبع هذا سنة إخوته . و أنا أخاف عليكم إن لم يكن
عليكم أحد من ولدي بعدي أن تهلكوا ، فخذوه الآن في صغر سنه ، فحببوا إليه الدنيا ،
فعسى أن يبقى من بعدي عليكم.
فبنوا له حائطاً .. فرسخاً
في فرسخ ، فكان فيه دهراً من دهره ، ثم ركب يوماً فإذا عليه حائط مصمت ، فقال : إني
أحسب إن خلف هذا الحائط ناساً و عالماً آخر ، فأخرجوني أزدد علماً و ألقى الناس
فقيل ذلك لأبيه ، ففزع و خشي أن يتبع سنة إخوته ، فقال : اجمعوا عليه كل لهو و لعب
، ففعلوا ذلك ..
ثم ركب في السنة الثانية ،
فقال : لا بد من الخروج ، فأخبر بذلك الشيخ ، فقال : أخرجوه ، فجعل على عجلة وكلل
بالزبرجد و الذهب و صار حوله حافتان من الناس ، فبينما هو يسير إذا هو برجل مبتلى
فقال : ما هذا ؟
قالوا : رجل مبتلى .
فقال : أيصيب ناساً دون ناس
أو كل خائف له ؟
قالوا : كل خائف له.
قال : و أنا فيما أنا فيه من
السلطان ؟
قالوا : نعم.
قال : أف لعيشكم هذا ! هذا
عيش كدر !!
فرجع مغموماً محزوناً ، فقيل
لأبيه ما كان من شأنه ..
قال الأب : انشروا عليه كل
لهو وباطل حتى تنزعوا من قلبه هذا الحزن و الغم. فلبث حولا، ثم قال : أخرجوني ،
فأخرج على مثل حاله الأول . فبينا هو يسير إذا هو برجل قد هرم ، و لعابه يسيل من
فيه .
فقال : ما هذا ؟
قالوا : رجل قد هرم .
قال : يصيب ناساً دون ناس أو
كل خائف له إن هو عمر؟
قالوا : كل خائف له . قال :
اف لعيشكم هذا ! هذا عيش لا يصفو لأحد .
فأخبر بذلك أبوه ، فقال :
احشروا عليه كل لهو و باطل . فحشروا عليه فمكث حولاً ، ثم ركب على مثل حاله . فبينا
هو يسير إذا هو بسرير تحمله الرجال على عواتقها ..
قال : ما هذا؟
قالوا : رجل مات .
قل لهم : وما الموت؟ إيتوني
به ! فأتوه به.
فقال : أجلسوه.
فقالوا : إنه لا يجلس .
قال : كلموه .
قالوا : إنه لا يتكلم .
قال : فأين تذهبون به ؟
قالوا : ندفنه تحت الثرى .
قال : فيكون ماذا بعد هذا ؟
قالوا : الحشر .
قال لهم : و ما الحشر؟
قالوا : " يوم يقف الناس
يحاسبون أمام رب العالمين " ، فيجزى كل واحد على قدر حسناته و سيئاته .
قال : و لكم دار غير هذه
تجاوزون فيها ؟
قالوا نعم .
فرمى بنفسه من الفرس و جعل
يعفر وجهه في التراب ، و قال لهم : من هذا كنت أخشى ! كاد هذا يأتي علي و أنا لا
أعلم به ، أما و رب يعطي و يحشر و يجازي ! إن هذا آخر العهد بيني و بينكم ، فلا
سبيل لكم علي بعد هذا اليوم فقالوا : لا ندعك حتى نردك إلى أبيك.
قال : فردوه إلى أبيه ، و كاد
ينزف دمه .
فقال : يا بني ! ما هذا الجزع
؟
قال : جزعي ليوم يعطى فيه
الصغير والكبير مجازاتهما ما عملا من الخير والشر.
فدعا بثياب فلبسها ، و قال :
إني عازم في الليل أن أخرج .. فلما كان في نصف الليل ، أو قريباً منه ، خرج .. فلما
خرج من باب القصر قال : اللهم إني أسألك أمراً ليس لي منه قليل و لا كثير ، قد سبقت
فيه المقادير . إلهي ! لوددت أن الماء كان في الماء ، و أن الطين كان في الطين ، و
لم أنظر بعيني إلى الدنيا نظرة واحدة !