القول المختصر في المهدي المنتظر
الشيخ علي بن محمد أبو هنية
الحمد
لله كما أمر, والشكر له وقد تأذَّن بالزيادة لمن شكر، والصلاة والسلام على
خير البشر, نبينا محمد وعلى آله وصحبه أولي النظر, وعلى من اقتفى دربهم من
أهل الأثر, وسار على نهجهم ولزم هديهم إلى أن يخرج المهدي المنتظر, أما
بعد:
فإن الإيمان بظهور المهدي في آخر الزمان, ومنتهى العصر والأوان,
عقيدة من عقائد الإسلام, التي يجب على كلِّ مسلم أن يؤمن بها, ولزاماً على
كلِّ مؤمن أن يسلِّم لها, فهي عقيدة ثابتة ظاهرة, بالأحاديث الصحيحة
المتواترة عن نبينا العدنان -صلوات الله وسلامه عليه-, وهي مسألة تعدُّ من
جزئيات الإيمان باليوم الآخر, كونها داخلةً في أشراط الساعة, قال -تعالى-:
﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ
جَاء أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ﴾.
وهذه
مقالة مستعجلة, قصيرة مختزلة, كتبتها غير مسترسل فيها, ولا مسهب في إيضاح
خوافيها, بيَّنت فيها أهمَّ ما يتعلق بهذه الشخصيَّة العظيمة, شخصيَّة
الإمام (المهدي) الذي سيظهر في آخر الزمان, ويقود الأمة إلى النصر والعزة,
ويخوض بها الفتن والملاحم الحادثة في ذلك الوقت.
بعضُ الأَحاديثِ الصَّحيحةِ الّتي تُبَيِّنُ حقيقةَ المهدي:
1)
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
«لو لم يبقَ من الدُّنيا إلاّ يوم؛ لَطوَّل اللهُ ذلكَ اليوم, حتى يُبعثَ
فيه رجلٌ من أهل بيتي, يواطئُ اسمُه اسمي, واسمُ أبيه اسمَ أبي, يملأُ
الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظُلماً وجَوراً». أخرجه أبو داود وصححه
الألباني في «صحيح الجامع» برقم (5304).
2) عن علي -رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «المهديُّ مِنَّا أهلَ البيت, يُصلحه
الله في ليلة». أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني في «الصحيحة» برقم
(2371).
3) عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-يقول: «المهديُّ من عِترتي من ولد فاطمة». أخرجه أبو داود وابن
ماجه وصححه الألباني في «صحيح الجامع» برقم (6734).
والعِتْرَة: «ولد
الرجل لصلبه, وقد يكون العترة -أيضاً-: الأقرباء وبنو العمومة, وعِترة
الرجل: أخصُّ أقاربه... وعِترة النَّبي: بنو عبد المطلب, وقيل: قريش,
والمشهور المعروف: أنهم الذين حرمت عليهم الزكاة»». «عون المعبود»
(11/251).
4) عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-: «المهديُّ منِّي, أَجلى الجبهة, أَقنى الأنف, يملأُ
الأرضَ قِسطاً وعدلاً, كما مُلِئت جَوراً وظلماً, يملك سبع سنين». أخرجه
أبو داود وصححه الألباني في «صحيح الجامع» برقم (6736).
أجلى الجبهة: واسعها, أقنى الأنف: طويلُه, مع دقة أرنبته وحدب في وسطه.
5)
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: «لا تقومُ السّاعة حتى تُملأَ الأرضُ ظلماً وجَوراً وعدواناً، ثم
يخرج رجل من عترتي, أو من أهل بيتي؛ يملؤها قسطاً وعدلاً، كما مُلِئت ظلماً
وعدواناً». أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم وصححه الألباني في «الصحيحة»
(4/39).
6) عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-: «لَتُملأنَّ الأرضُ جَوراً وظلماً, فإذا مُلِئت جَوراً
وظلماً؛ يبعث الله رجلاً مني؛ اسمه اسمي, واسم أبيه اسم أبي, فيملؤها عدلاً
وقسطاً, كما مُلِئت جَوراً وظلماً, فلا تمنع السماء شيئاً من قطرها, ولا
الأرض شيئاً من نباتها, يمكث فيكم سبعاً, أو ثمانياً, فإن أكثرَ فتسعاً».
أخرجه البزار والطبراني وصححه الألباني في «صحيح الجامع» برقم (5073).
7)
عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يكونُ
في آخرِ أمتي خليفةٌ يَحْثُو المالَ حَثْواً؛ لا يَعُدُّهُ عَدًّا». رواه
مسلم.
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- قال: «يخرج في آخر أمتي المهدي؛ يسقيه الله الغيث, وتُخرج الأرض
نباتها, ويُعطِي المالَ صَحاحاً, وتكثر الماشية, وتعظم الأمة, يعيش سبعاً
أو ثمانياً. يعني:حجة». أخرجه الحاكم وصححه الألباني في «الصحيحة» برقم
(711).
9) عن جابر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
«ينزل عيسى بن مريم، فيقول أميرهم (المهدي): تعال صلِّ بنا، فيقول: لا, إن
بعضهم أمير بعض، تكرمة الله لهذه الأمة». «الصحيحة» رقم (2236).
قال
محمد بن سيرين :: «المَهْدِيُّ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ, وَهُوَ الَّذِي
يَؤُمُّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ -عليه السلام-».أخرجه ابن أبي شيبة في
«المصنف» برقم (38804).
* خلاصة ما في الأحاديث:
أن (المهدي المنتظر)
اسمه: محمد بن عبد الله, ولقبه: المهدي, ونَسَبُه: من عترة النبي -صلى
الله عليه وسلم-, أي: من أهل بيته؛ حَسَني فاطمي؛ من نسل فاطمة ابنة النبي
-صلى الله عليه وسلم-, ومن نسل ابنها الحسن تحديداً, وله صفات خَلْقية
محددة كما في الحديث.
ويكون ظهوره عند اشتداد الظُّلم والجَور والعدوان
على الأمة جمعاء, ويصلحه الله للخلافة في ليلة واحدة, ويمكث حاكماً لهذه
الأمة مدة سبع سنوات إلى تسع سنوات, ويصلي إماماً بعيسى بن مريم -عليه
السلام- حين ينزل, ويعيش الناس في زمن المهدي في سَعَة ورخاء, حتى يفيض
المال, ويزيد عن حاجة الناس, وتكثر الماشية.
أحاديث المهدي متواترة:
وقد
حكم جمع من أئمة أهل العلم بالحديث بأن أحاديث المهدي متواترة, وأوَّل من
صرَّح بذلك منهم: الحافظ أبو الحسن محمد بن الحسين الآبُرِّي (ت:363هــ)
صاحب كتاب «مناقب الشافعي», فقال -رحمه الله-: «وقد تواترت الأخبار
واستفاضت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذكر المهدي، وأنه من أهل
بيته، وأنه يملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلاً، وأن عيسى -عليه السلام-
يخرج, فيساعده على قتل الدجال، وأنه يؤمُّ هذه الأمة, ويصلى عيسى خلفه».
«تهذيب الكمال» (25/149).
وقد نقل عنه هذه العبارة عنه, وارتضاها,
وأقرّها جمعٌ من العلماء الأجلاء, مثل: الحافظ أبي الحجاج المِزّي -رحمه
الله- في كتابه «تهذيب الكمال», والعلامة القرطبي -رحمه الله- في كتابه
«التذكرة», والعلامة ابن قيم الجوزية -رحمه الله- في كتابه «المنار
المنيف», والحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- في كتابيه «تهذيب
التهذيب»، و«فتح الباري», والحافظ السَّخاوي -رحمه الله- في كتابه «فتح
المغيث», والحافظ جلال الدين السيوطي -رحمه الله- في رسالته «العَرف الوردي
في أخبار المهدي», والفقيه ابن حجر الهيتمي -رحمه الله- في كتابه «الصواعق
المحرقة», والعلامة مرعي بن يوسف الكرمي -رحمه الله- في كتابه «فوائد
الفكر في ظهور المهدي المنتظر», وغيرهم.
وممَّن قال بتواتر أحاديث
المهدي -أيضاً- من العلماء: العلامة محمد البرزنجي الحسيني -رحمه الله- في
كتابه «الإشاعة لأشراط الساعة», والعلامة محمد السفاريني -رحمه الله- في
كتابه «لوامع الأنوار البهيَّة», والعلامة محمد بن علي الشوكاني -رحمه
الله- في كتابه «التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر والدجال
والمسيح», والعلامة صديق حسن خان القِنَّوجي -رحمه الله- في كتابه «الإذاعة
لما كان وما يكون بين يدي الساعة», والشيخ محمد بن جعفر الكتاني -رحمه
الله- في كتابه «نظم المتناثر في الحديث المتواتر», والإمام الألباني -رحمه
الله- في مقال له بعنوان: «المهدي المنتظر», نشر في «مجلة التَّمدن
الإسلامي», والشيخ العلامة ابن باز -رحمه الله- في «مجموع فتاويه».
وهذا
فيه أعظم ردٍّ, وأكبر صدٍّ لمن زعم بأن أحاديث المهدي أخبار آحاد لا تصل
إلى حدِّ التواتر -زعماً منهم-؛ ليتوصَّلوا إلى ردِّها وإنكارها.
أسماء الصحابة الذين رووا أحاديث المهدي:
بلغ عدد الصحابة الذين رووا أحاديث المهدي أكثر من ثلاثين صحابياً, هم:
عثمان
بن عفان, علي بن أبي طالب, طلحة بن عبيد الله, عبد الرحمن بن عوف, الحسين
بن علي, أم سلمة, أم حبيبة, عبد الله بن عباس, عبد الله بن مسعود, عبد الله
بن عمر بن الخطاب, عبد الله بن عمرو بن العاص, أبو سعيد الخدري, جابر بن
عبد الله, أبو هريرة, أنس بن مالك, عمار بن ياسر, عوف بن مالك, ثوبان مولى
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, قرة بن إياس, علي الهلالي, حذيفة بن
اليمان, عبد الله بن الحارث بن جَزْء الزبيدي, أبو أيوب الأنصاري, عمران بن
حصين, أبو الطفيل, جابر بن ماجد الصدفي, أبو أمامة الباهلي, العباس بن عبد
المطلب, تميم الداري, عائشة بنت أبي بكر الصديق, عمرو بن مرة الجهني. رضي
الله عنهم أجمعين, وأحاديثهم -كما هو معلوم- منها الصحيح, ومنها الحسن,
ومنها الضعيف, ولكن بمجموعها تبلغ حد التواتر.
بعض عبارات أهل العلم في إثبات حقيقة المهدي, وتواتر أحاديثه:
1ـ
قال الإمام البيهقي -رحمه الله-: «والأحاديث في التنصيص على خروج المهدي
أصحُّ البتة إسناداً, وفيها بيان كونه من عترة النبي -صلى الله عليه وسلم-
».اهـ نقله عنه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (47/518), والمزي في «تهذيب
الكمال» (25/149).
2ـ قال الإمام القرطبي -رحمه الله-: «والأحاديث عن
النبي -صلى الله عليه وسلم- في التَّنصيص على خروج المهدي من عترته من ولد
فاطمة ثابتة..».اهـ «التذكرة» (ص699).
3ـ قال شيخ الإسلام ابن تيمية
-رحمه الله-: «الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة, رواها
أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم من حديث ابن مسعود وغيره».اهـ «منهاج
السنة» (8/183).
4ـ قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: «أنه [أي:
المهدي] رجل من أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-, من ولد الحسن بن علي,
يخرج في آخر الزمان، وقد امتلأت الأرض جَوراً وظلماً, فيملؤها قسطاً
وعدلاً، وأكثر الأحاديث على هذا تدل».اهـ «المنار المنيف» (ص151).
5ـ
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: «فصل: في ذكر المهدي الذي يكون في آخر
الزمان؛ وهو أحد الخلفاء الراشدين, والأئمة المهديين. وليس بالمنتظر الذي
تزعم الروافض وترتجي ظهوره من سرداب في سامراء! فإِن ذاك ما لا حقيقة له,
ولا عين, ولا أثر, أما ما سنذكره؛ فقد نطقت به الأحاديث المروية عن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- أنه يكون في آخر الدهر, وأظن ظهوره يكون قبل
نزول عيسى ابن مريم, كما دلت على ذلك الأحاديث... ولعله هو الخليفة الذي
يحثي المال حثياً والله -تعالى- أعلم. وفي زمانه تكون الثمار كثيرة,
والزروع غزيرة, والمال وافراً, والسلطان قاهراً, والدين قائماً, والعدو
راغماً, والخير في أيامه دائماً».اهـ «النهاية في الفتن والملاحم»
(ص15-18).
6ـ قال العلامة الشوكاني -رحمه الله-: «والأحاديث الواردة في
المهدي التي أمكن الوقوف عليها, منها خمسون حديثاً فيها الصحيح, والحسن,
والضعيف المنجبر, وهي متواترة بلا شك ولا شبهة, بل يصدق وصف التواتر على ما
دونها على جميع الاصطلاحات المحررة في الأصول, وأما الآثار عن الصحابة
المصرحة بالمهدي, فهي كثيرة -أيضاً-, لها حكم الرفع, إذ لا مجال للاجتهاد
في مثل ذلك».اهـ نقله عنه العلامة صديق حسن خان في كتابه «الإذاعة» (ص62).
بعض المنكرين لحقيقة المهدي:
وقد
حاول بعض الناس إنكار وجود المهدي, وأنه شخصية وهميَّة لا حقيقة لها,
بانياً قوله الفاسد هذا على أحاديث ضعيفة, أو على بعض الشبهات الواهية التي
زيَّنها له بعض الأخباريين, والمفكرين, والعقلانيين, وقد ردَّ علماء الأمة
-قديماً وحديثاً- على هؤلاء, وأبطلوا مزاعمهم, ونقضوا بنيانهم من القواعد,
قال العلامة صديق حسن خان -رحمه الله-: «لا شكَّ في أنَّ المهدي يخرج في
آخر الزمان, من غير تعيين لشهر وعام، لما تواتر من الأخبار في الباب، واتفق
عليه جمهور الأمة خلفاً عن سلف، إلا من لا يُعتدُّ بخلافه».
وقال -رحمه
الله-: «فلا معنى للريب في أمر ذلك الفاطمي الموعود المنتظر المدلول عليه
بالأدلة، بل إنكار ذلك جرأة عظيمة في مقابلة النصوص المستفيضة المشهورة
البالغة إلى حد التواتر».اهـ «الإذاعة» (ص79).
قلت: ومن أشهر هؤلاء
المنكرين: (ابن خلدون -رحمه الله-, -وقد ردَّ عليه أكثر من عشرة من أهل
العلم-, ومحمد رشيد رضا, ومحمد فريد وجدي, وأحمد أمين, وعبد الله بن زيد آل
محمود, ومحمد فهيم أبو عبيَّة, ومحمد الغزالي, وأبو الأعلى المودودي,
وغيرهم)-غفر الله لهم-.
ومن أحسن ما وقفت عليه من الكتب التي تردُّ على
هؤلاء المنكرين, وتفنِّد شبههم, كتاب: «الاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي
المنتظر» للشيخ حمود بن عبد الله التويجري -رحمه الله-, ورسالة: «الرَّد
على من كذَّب بالأحاديث الصَّحيحة الواردة في المهدي» لشيخنا عبد المحسن
العبَّاد -حفظه ربُّ العباد-, وهناك غيرهما -أيضاً-.
شُبُهَاتٌ حَولَ المَهْدِي -عند المنكِرين- وَالرَّدُّ عَلَيْهَا:
* الشبهة الأولى: حديث: «لا مهديَّ إلا عيسى بن مريم».
الرَّدُّ عليها:
حَكمَ
جمعٌ من الحفَّاظ على هذا الحديث بالضَّعف والنَّكارة, كالنسائي، والحاكم،
والبيهقي، وابن الجوزي، وابن تيمية، وابن القيم، والمزي، والذهبي، وابن
حجر العسقلاني، وابن حجر الهيتمي، والشوكاني، وغيرهم, بل قد حكم بعضهم عليه
بالوضع كالصَّغاني -رحمهم الله أجمعين-. «الضعيفة» (1/175) حديث رقم (77),
وانظر: «الموسوعة في أحاديث المهدي الضعيفة والموضوعة» (ص94) لعبد العليم
البستوي. فإسناده ضعيف فيه راوٍ مجهول لا يُحتجُّ به وعلَّتان أخريان,
ومتنه منكر مخالف للأحاديث الصحيحة.
* الشبهة الثانية: عدم ورود ذكر المهدي في القرآن.
الرَّدُّ عليها:
وهذه
حُجَّة واهية واهنة لا تقوى القيام على رجليها، بل لا يحتجُّ بها ولا
يعتمد عليها؛ لأنه لا يشترط في جميع مسائل الدين أن تكون مسطَّرة في
القرآن، وإلا لما كان هناك حاجة إلى وجود السنَّة أصلاً! فالقرآن والسنة
أصلان يكمِّل بعضهما بعضاً، وهذه الدَّعاوى الدَّخيلة الخبيثة -بأن تكون كل
مسائل الدين عقيدة وشريعة مدونة في القرآن- هي دعاوى مبطنة لإنكار حجية
السنة، والاكتفاء بالقرآن، ومن ثمَّ ادعاء أن القرآن ناقص لم يكفِ حاجة
الناس، أو لنا أن نفهمه كما نشاء بمعزل عن السنة، أو غير ذلك من الدعاوى
الباطلة، وهي بلا شك شبهة اخترعها الرافضة والباطنية، وتبعهم عليها من لا
خلاق له من الجهلة وضعاف النفوس من أهل السنة.
عن المقدام بن مَعْدي
كَرِبٍ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ
الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا يُوْشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانٌ عَلَى
أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، فَمَا وَجَدْتُمْ
فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ
فَحَرِّمُوهُ!». رواه أبو داود في سننه برقم (4604) وصححه الألباني.
وقال
-صلى الله عليه وسلم-: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ، لَنْ تَضِلُّوا مَا
إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللَّـهِ، وَسُنَّتِي، وَلَنْ
يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْـحَوْضَ». قال الألباني -رحمه
الله-: «رواه مالك بلاغاً، والحاكم موصولاً بإسناد حسن».اهـ «منزلة السنة
في الإسلام» (ص14).
وقال أيوب السّختياني -رحمه الله-: « إذا حدَّثْتَ الرجل بسنة، فقال: «دعنا من هذا، وأنبئنا عن القرآن»، فاعلم أنه ضال».
* الشبهة الثالثة: عدم وجود ذكر للمهدي في الصحيحين.
الرَّدُّ عليها:
والرد على هذه الشبهة الدَّاحضة من ثلاثة وجوه:
1)
أنه قد ورد ذكر المهدي في الصحيحين، ولكن دون التصريح باسمه أو لقبه، وعدم
وجود ذلك التصريح لا يعني عدم صحة الأحاديث الأخرى في غير الصحيحين، والتي
جاءت مصـرِّحة بذكره، بل قد جاء الإجمال في الصحيحين والتفصيل في غيرهما.
2) أن الصحيحين لم يستوعبا جميع الأحاديث الصحيحة، وهذا أمر متقرر عند أهل العلم بالحديث، وقد قاله غير واحد منهم.
3) أن هناك بعض العقائد الثابتة عند المسلمين مع أنها لم ترد في الصحيحين.
* الشبهة الرابعة: أنَّ أحاديث المهدي (أحاديث آحاد) لا يثبت بها عقيدة.
الرَّدُّ عليها:
وقد
سبق الرد على هذه الشبهة، وبيان بطلان هذه الدعوى وعدم ثبوتها في الفصل
الثاني من هذه الرســالة، وأنَّ أحاديث المهدي متواترة كما نصَّ على ذلك
جمع من أهل العلم بالحديث، وهم أهله، والأحقُّ بالكلام عنه، والحكم عليه،
والذين يجب أن يتلقَّى كلامهم بالقبول ممن هم دونهم، ولا يعارض قولهم بقول
من يرجم بالغيب من مكان بعيد، ويتخرَّص تخرُّصاً من المفكرين، وأصحاب
الآراء الشَّاذَّة من المعاصرين. قال الإمام الألباني -رحمه الله-: «إنَّ
عقيدة خروج المهدي عقيدة ثابتة متواترة عنه -صلى الله عليه وسلم-، يجب
الإيمان بها لأنها من أمور الغيب، والإيمـان بها من صفات المتَّقين؛ كـمـا
قال -تعالى-: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى
لِلْمُتَّقِينَ﴾. وإنَّ إنكارها لا يصدر إلا من جاهل أو مكابر. أسأل الله
-تعالى- أن يتوفَّانا على الإيمان بها، وبكلِّ ما صحَّ في الكتاب والسنة».
من مقال للشيخ بعنوان: «المهدي المنتظر»، نشـر في «مجلة التَّمدُّن
الإسلامي» [العدد (22) (ص646)]، وانظر -أيضاً-: «سلسلة الهدى والنور» شريط
رقم (218).
* الشبهة الخامسة: هناك من العلماء المتقدِّمين من أنكر وجود المهدي, وضعَّف الأحاديث الواردة فيه, فنحن نتَّبعهم ونقلِّدهم في ذلك.
الرَّدُّ عليها:
وغاية
ما في هذه الشبهة الاحتجاج بزلات بعض العلماء الذين خاضوا في غير فنِّهم،
وكما قيل: «إذا تكلَّم المرء في غير فنِّه أتى بهذه العجائب». ومن أبرز
هؤلاء العلماء الذين اتُّكِئَ على كلامهم، واستُمسِك بحزامهم، اثنان، بل لا
يكاد يعرف غيرهما من الماضين:
الأول: هو أبو محمد بن الوليد البغدادي، ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في «منهاج السنة» (8/184).
الثاني:
العلامة المغربي المؤرخ المشهور ابن خلدون -رحمه الله-. ثم إنني وقفت على
كلام ظاهره إنكار المهدي لأحد المتقدِّمين من العلماء الأجلاء، ولم أجد من
تعرَّض لذكره بين المنكرين ممن ألَّف في المهدي؛ وهو الإمام الشَّاطبيُّ
-رحمه الله- صاحب الكتابين العظيمين: «الموافقات» و«الاعتصام»!
ذكر بعض الدَّجاجلة الكذّابين مدَّعي المهدويَّة:
ادَّعى
كثير من الناس المهدويَّة على مرِّ الزَّمان, فمنهم من ماتت دعواه في
مهدها, ومنهم من صال وجال قليلاً, ثم لحق بسابقيه وأسلافه من أهل الدَّجل,
ومنهم من صارت له شوكة وأتباع, ومنهم من قامت له دولة على دعواه, ولكن ما
منهم أحد نال مراده ولا مبتغاه, بل باء بالخيبة والخسران, وخرج من الدُّنيا
بالشِّقوة والنَّدامة والحرمان, وسُطِّر اسمه في سِجِلِّ الكذَّابين, ووضع
بين الدجاجلة المفترين, ودوَّن التاريخ منه الخبر, وصار عبرة لمن اعتبر,
وكلُّ ذلك من وحي الشياطين, وتلبيس الملبِّسين.
قال شيخ الإسلام ابن
تيمية -رحمه الله-: «وأعرف في زماننا غير واحد من المشايخ الذين فيهم زهد
وعبادة, يَظنُّ كلٌّ منهم أنه (المهدي), وربما يخاطَب أحدهم بذلك مرات
متعدِّدة, ويكون المخاطِب له بذلك الشيطان, وهو يظنُّ أنه خطاب من قبل
الله!».اهـ «منهاج السنة» (8/259).
ومن أشهر وأبرز هؤلاء الكذَّابين المدَّعين للمهدويَّة:
أولاً: مهدي الشيعة الخرافي, الإمام الغائب المنتظر (محمد بن الحسن العسكري):
قال
الإمام ابن القيم -رحمه الله- في «المنار المنيف» (ص152): «وأما الرافضة
الإمامية, فلهم قول رابع: وهو أن المهدي هو (محمد بن الحسن العسكري)
المنتظر, من ولد الحسين بن علي, لا من ولد الحسن, الحاضر في الأمصار,
الغائب عن الأبصار, الذي يورث العصا, ويختم الفضا, دخل سرداب سامراء طفلاً
صغيراً من أكثر من خمس مئة سنة, فلم تره بعد ذلك عين, ولم يحسّ فيه بخبر
ولا أثر, وهم ينتظرونه كلَّ يوم, يقفون بالخيل على باب السرداب, ويصيحون به
أن يخرج إليهم: اخرج يا مولانا! اخرج يا مولانا! ثم يرجعون بالخيبة
والحرمان, فهذا دأبهم ودأبه.
ولقد أحسن من قال:
مـــا آنَ لـلسـِّـردابِ أَنْ يَـلِـدَ الـذي كَـلَّـمـتـمـوهُ بـِجَـهْـلِـكُـم مــا آنـا
فَـعَـلى عُـقُـولِـكُـم الـعَفاء فإِنَّــكـمْ ثَـلَّـثـتـمُ الـعَـنـقـاءَ والـغِيـلانَــا».اهـ
ثانياً: محمد بن عبد الله بن تومَرت المغربي (ت:524هـ).
قال
العلامة ابن القيم -رحمه الله-: «أما مهدي المغاربة محمد بن تومَرت, فإنه
رجل كذاب, ظالم متغلب بالباطل, ملك بالظلم والتغلب والتحيل, فقتل النفوس,
وأباح حريم المسلمين, وسبى ذراريهم, وأخذ أموالهم, وكان شرًّا على الملة من
الحجاج بن يوسف بكثير, وكان يودع بطن الأرض في القبور جماعة من أصحابه
أحياء, يأمرهم أن يقولوا للناس: إنه (المهدي) الذي بشر به النبي -صلى الله
عليه وسلم-, ثم يردم عليهم ليلاً لئلا يكذبوه بعد ذلك, وسمى أصحابه
الجهمية: الموحدين! نفاة صفات الرب وكلامه, وعلوه على خلقه, واستوائه على
عرشه, ورؤية المؤمنين له بالأبصار يوم القيامة, واستباح قتل من خالفهم من
أهل العلم والإيمان, وتسمَّى (بالمهدي) المعصوم».اهـ «المنار
المنيف»(ص153).
ثالثاً: عبيد الله بن ميمون القدَّاح الباطني (ت:322هـ).
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «وقد ادعى أنه (المهدي) عبيد الله بن
ميمون القداح, ولكن لم يوافق في الاسم ولا اسم الأب, وهذا ادعى أنه من ولد
محمد بن إسماعيل, وأهل المعرفة بالنسب وغيرهم من علماء المسلمين يعلمون أنه
كذب في دعوى نسبه, وأن أباه كان يهوديًّا ربيب مجوسى, فله نسبتان نسبة إلى
اليهود, ونسبة إلى المجوس, وهو وأهل بيته كانوا ملاحدة, وهم أئمة
الإسماعيلية الذين قال فيهم العلماء: «إن ظاهر مذهبهم الرفض, وباطنه الكفر
المحض», وقد صنف العلماء كتباً في كشف أسرارهم, وهتك أستارهم, وبيان كذبهم
في دعوى النسب, ودعوى الإسلام, وأنهم بريئون من النبي -صلى الله عليه وسلم-
نسباً وديناً, وكان هذا المتلقب (بالمهدي) عبيد الله بن ميمون قد ظهر سنة
(299هـ), وتوفى سنة (324هـ), وانتقل الأمر إلى ولده...
وانقرض ملك هؤلاء
في الديار المصرية سنة (568هـ), فملكوها أكثر من مائتي سنة, وأخبارهم عن
العلماء مشهورة بالإلحاد, والمحادة لله ورسوله, والردة والنفاق».اهـ «منهاج
السنة» (2/191).
رابعاً: محمد بن عبد الله القحطاني السُّعودي.
وممن
ادعى المهدوية -أيضاً- في عصرنا الحاضر المدعو: محمد بن عبد الله القحطاني
السعودي, وكان طالباً في كلية الشريعة جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض,
فترك الدراسة بها في السنة الرابعة, ثم زعم أنه رأى رؤيا مفادها أنه
(المهدي) المنتظر, وجاءه جماعة من المتآمرين وادَّعوا ذلك -أيضاً-, وبنوا
صنيعهم على حديث ضعيف في السنن, وبايعه جماعة من طلبة العلم, وخرجوا على
الناس في المسجد الحرام سنة: (1400هـ الموافق لـ 1980م) بالسلاح, فكان ما
هو معروف بـ«بفتنة الحرم», حيث سفك فيها الدم الحرام, وانتهكت حرمة البيت,
نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة. وغير هؤلاء كثير, ولكنَّنا
-لضيق المقام- اقتصرنا على من ذكرنا.
الخلافة قبل المَهْدِي المنتظر:
قال
الإمام الألباني -رحمه الله-: «واعلم يا أخي المسلم أن كثيراً من المسلمين
اليوم قد انحرفوا عن الصواب في هذا الموضوع، فمنهم من استقرَّ في نفسه أن
دولة الإسلام لن تقوم إلا بخروج المهدي! وهذه خرافة وضلالة ألقاها الشيطان
في قلوب كثير من العامة، وبخاصة الصوفية منهم، وليس في شيء من أحاديث
المهدي ما يشعر بذلك مطلقاً، بل هي كلها لا تخرج عن أن النبي -صلى الله
عليه وسلم- بشر المسلمين برجل من أهل بيته، ووصفه بصفات بارزة أهمها أنه
يحكم بالإسلام، وينشر العدل بين الأنام، فهو في الحقيقة من المجدِّدين
الذين يبعثهم الله في رأس كل مئة سنة كما صحَّ عنه -صلى الله عليه وسلم-،
فكما أن ذلك لا يستلزم ترك السعي وراء طلب العلم، والعمل به لتجديد الدين،
فكذلك خروج المهدي لا يستلزم التواكل عليه، وترك الاستعداد، والعمل لإقامة
حكم الله في الأرض، بل العكس هو الصواب، فإن المهدي لن يكون أعظم سعياً من
نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، الذي ظلَّ ثلاثة وعشرين عاماً وهو يعمل
لتوطيد دعائم الإسلام، وإقامة دولته، فماذا عسى أن يفعل المهدي لو خرج
اليوم فوجد المسلمين شيعاً وأحزاباً، وعلماءهم -إلا القليل منهم- اتخذهم
الناس رؤوساً! لما استطاع أن يقيم دولة الإسلام إلا بعد أن يوحِّد كلمتهم،
ويجمعهم في صف واحد، وتحت راية واحدة، وهذا -بلا شكٍّ- يحتاج إلى زمن مديد
الله أعلم به، فالشرع والعقل -معاً- يقتضيان أن يقوم بهذا الواجب المخلصون
من المسلمين، حتى إذا خرج المهدي، لم يكن بحاجة إلا أن يقودهم إلى النصر،
وإن لم يخرج فقد قاموا هم بواجبهم، والله يقول: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ
فَسَيَرَى اللَّـهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ﴾». «الصحيحة» (4/42-43).
والحمد لله رب العالمين