السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
كيف حفظ الله السنة؟
و هل تغَيّر لفظ الحديث أو الرواية عند النقل ؟
في
التمهيد للجواب عن هذا السؤال لا بد من التذكير بأن الله سبحانه وتعالى قد
تكفل بحفظ القرآن الكريم من التبديل والتغيير ، ومقتضى ذلك أيضا أن يحفظ
الحق سبحانه وتعالى مجمل السنة – التي هي شارحة للقرآن ومبينة لمعناه – من
التبديل والتغيير العام .
قال الله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الحجر/9.
قال الإمام ابن حزم رحمه الله :
"
فمضمون عند كل من يؤمن بالله واليوم الآخر أن ما تكفل الله عز وجل بحفظه :
فهو غير ضائع أبدا ، لا يشك في ذلك مسلم ، وكلام النبي صلى الله عليه و
سلم كله وحي ، بقوله تعالى : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ
إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) النجم/3، 4 . والوحي ذكر بإجماع الأمة كلها ،
والذكر محفوظ بالنص ؛ فكلامه عليه السلام محفوظ بحفظ الله عز و جل ضرورة ،
منقول كله إلينا لا بد من ذلك " . انتهى . "الإحكام في أصول الأحكام"
(2/201) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" ولكن هذه
الأمة حفظ الله لها ما أنزله ، كما قال تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا
له لحافظون) فما في تفسير القرآن ، أو نقل الحديث ، أو تفسيره ، مِن غلط :
فإن الله يقيم له من الأمة مَن يبينه ويذكر الدليل على غلط الغالط وكذب
الكاذب ، فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة ، ولا يزال فيها طائفة ظاهرة
على الحق حتى تقوم الساعة ، إذ كانوا آخر الأمم ، فلا نبي بعد نبيهم ، ولا
كتاب بعد كتابهم " انتهى.
" الجواب الصحيح " (3/38-39)
وقال أيضا رحمه الله :
" فما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة محفوظ " انتهى.
" مجموع الفتاوى " (27/169)، ونحوه في " جامع المسائل " (4/162)
وقال الشيخ المعلمي رحمه الله :
"
( الذِّكْر ) يتناول السنة بمعناه إن لم يتناولها بلفظه ، بل يتناول
العربية وكل ما يتوقف عليه معرفة الحق ، فإن المقصود من حفظ القرآن أن تبقى
الحجة قائمة ، والهداية دائمة إلى يوم القيامة ؛ لأن محمدا صلى الله عليه
وآله وسلم خاتم الأنبياء ، وشريعته خاتمة الشرائع ، والله عز وجل إنما خلق
الخلق لعبادته ، فلا يقطع عنهم طريق معرفتها ، وانقطاع ذلك في هذه الحياة
الدنيا وانقطاع لعلة بقائهم فيها " انتهى." التنكيل " (1/234)
وقد
علق الملا علي القاري في " شرح نخبة الفكر " (ص/446) لما قيل لابن المبارك :
هذه الأحاديث الموضوعة ! قال : يعيش لها الجهابذة - أي نقاد الحديث
وحذاقهم -، قال الله تعالى: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) انتهى
. وكأنه أراد أنه من جملة حفظ لفظ الذكر حفظُ معناه ، ومن جملة معانيه :
الأحاديث النبوية الدالة على توضيح مبانيه ، كما قال تعالى : ( لتبين للناس
ما نزل إليهم ) ففي الحقيقة تكفّل الله تعالى بحفظ الكتاب والسنة " انتهى.
ثانيا :
نحن
لا ننفي أن ثمة من روايات الحديث ما روي بالمعنى ، وما تصرف فيه بعض
الرواة، ولكننا نقطع بأن هذا التغيير إنما كان بقدر يسير لا يغير المعنى ،
بل يحافظ على المضمون ، ولا يؤثر على حجية السنة الصحيحة واعتقاد نسبة
مضمونها للنبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأوجه كثيرة جدا ، تحتاج إلى
دراسة مستقلة مفصلة في بيانها والاستدلال عليها ونقل تقريرات العلماء لها ،
ولكننا نجمل بعضها في الأسباب الآتية :
1-العصمة التي تكفل بها رب العزة ، أن يحفظ هذا الدين العظيم القائم على الكتاب والسنة الصحيحة ، وقد سبق بيان ذلك .
2-تفاني
الصحابة رضوان الله عليهم في حفظ العلم والدين ، والتلقي عن النبي الكريم
صلوات الله وسلامه عليه ، وتبليغ كلامه للناس ، وقد بدا هذا التفاني في
مظاهر كثيرة ، وصور جليلة عظيمة ، كان منها أن بعض الصحابة رحل مسيرة شهر
لسماع حديث واحد .
3-تفاني التابعين ومن بعدهم في حفظ الحديث
وروايته وكتابته والرحلة في طلبه ، وهذا أيضا بحر لا ساحل له ، فكم أفنيت
فيه من أعمار ، وأنفقت فيه من أموال ، وسطرت فيه من كتب ،
وما مئات
الكتب المعروفة اليوم باسم كتب الرجال والتراجم إلا نقطة يسيرة في ذلك
البحر الواسع ، ولا شك أن هذا التفاني سياج يحمي السنة من التحريف والتبديل
والضياع .
4-كتابة السنة النبوية بدأت منذ عهد النبي صلى الله عليه
وسلم ولم تكن بدايتها على يد البخاري رحمه الله ، بل كان دور البخاري
الجمع والانتقاء والترتيب فقط ،
والدليل على ذلك حديثان صحيحان : عن عبد
الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : ( كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ
أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أُرِيدُ حِفْظَهُ ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ ، وَقَالُوا : أَتَكْتُبُ كُلَّ
شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا ، فَأَمْسَكْتُ عَنْ
الْكِتَابِ ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ فَقَالَ : اكْتُبْ ،
فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ ) رواه أبو
داود (3646)،
كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة الحديث لرجل أُمَّيٍّ من أهل اليمن يُدعى " أبو شاه " ،
حيث
جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه : ( فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ
الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ أَبُو شَاهٍ فَقَالَ : اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ
اللَّهِ . فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ )
رواه البخاري (6880) ومسلم (1355) .
وقد جاء بالأسانيد الصحيحة
تسمية العشرات من الصحابة رضوان الله عليهم ممن كَتَب أحاديث النبي صلى
الله عليه وسلم ، حتى اشتهرت بعض الصحف التي تحوي عشرات الأحاديث شهرةً
واسعةً :
كصحيفة أبي بكر في فرائض الصدقة ،
وصحيفة علي بن أبي طالب ،
والصحيفة الصادقة لعبد الله بن عمرو ،
وصحيفة جابر بن عبد الله ،
والصحيفة الصحيحة التي يرويها همام عن أبي هريرة من حديثه ،
وأكثر هذه الصحف الحديثية مروية في صحيح البخاري ، يسوقها رحمه الله بسنده إليها ،
والرواة من التابعين والأئمة من بعدهم إنما كانوا ينقلون من كتبهم وصحفهم ، ولم يكونوا يكتفون بالحفظ من غير تدوين ،
حتى إن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ، وهو جبل الحفظ والإتقان ، كان لا يروي حديثا إلا من كتابه ،
وكان عبد الرزاق الصنعاني يقول لتلميذه يحيى بن معين : اكتب عني حديثا واحدا بلا كتاب ، فقال : لا ، ولا حرفا .
ومن
توسع في الاطلاع على كتب الرجال تبين له أن عمل الإمام البخاري رحمه الله
إنما هو عمل الناقل الناقد ، وليس عمل المدون لما هو محفوظ في الصدور فقط ،
وهذه مسألة خطيرة مهمة ، غفل – أو تغافل – عنها كثير من الناس ،
فمن
أراد الاطلاع على جميع ما ورد فيها فليرجع إلى ثلاثة كتب مهمة هي : "
تقييد العلم " للخطيب البغدادي ، " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر ،
" دراسات في الحديث النبوي " لمحمد مصطفى الأعظمي .
قال الدكتور حاكم المطيري حفظه الله :
"
وقد ذَكَرت كثيرٌ من المصادر التاريخية أسماء كتب كثيرة في الحديث النبوي ،
وذكرت أسماء مؤلفيها ، وهم من علماء القرن الأول الهجري ، وكانت هذه الكتب
متداولة بين علماء القرنين الثاني والثالث الهجريين " انتهى.
نقلا من كتابه الرائع " تاريخ تدوين السنة النبوية وشبهات المستشرقين " (ص/113)،
وهو
من أعظم الكتب التي تشرح حقيقة وجود مؤلفات في الحديث النبوي منذ القرن
الأول، وترد على شبهات المستشرقين في دعواهم تحريف السنة النبوية.
5-الرواية
بالمعنى - وإن كانت واقعة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم – إلا أن
المحدثين اشترطوا لقبولها أن يكون الراوي عالما باللسان العربي ، عالما بما
يحيل المعاني ويُغَيِّرُها ، ولم يكونوا يقبلون من كل راو روايته بالمعنى ،
فضلا عن أن كثيرا من الرواة والأئمة لم يكونوا يستحلون الرواية بالمعنى ،
بل يأخذون أنفسهم بالأشد ، وهو أداء اللفظ كما هو ، منهم عمر بن الخطاب ،
وابنه عبد الله ، ونافع مولى ابن عمر ، والقاسم بن محمد ، ومحمد بن سيرين ،
ورجاء بن حيوة ، وأبي معمر الأزدي ، وعبد الله بن طاوس ، ومالك بن أنس ،
وعبد الرحمن بن مهدي ، وغيرهم
6-ثم إن تعدد طرق الحديث الواحد من
أهم ما يساعد على تدقيق أقرب الألفاظ إلى اللفظ النبوي الصحيح ، فقد يسر
الله عز وجل للسنة النبوية تعدد الأسانيد والطرق التي تؤدي الحديث الواحد ،
وهذه ثروة يمكن الاستفادة منها في الدراسة والمقارنة كي نصل إلى أقرب
الألفاظ الصحيحة .
7-كما أن علم " نقد الحديث " المسمى بعلم " العلل
" من أهم العلوم الإنسانية التي أبدع فيها النقاد والمحدثون لتمييز الصواب
من الخطأ في الروايات ، وقد سطر فيه العلماء آلاف الصفحات ، ملؤوها بالحكم
على الروايات ودراستها وتمييز الصحيح من الضعيف منها ، وهذا أيضا من أهم
عوامل حفظ السنة النبوية من التغيير والتبديل .
8- ومما يخفى على كثير من الناس في هذا الشأن أن تعدد روايات الحديث الواحد في كثير من الأحيان لا يكون بسبب الرواة ،
بل
يكون بسبب تنوع ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم بين الحين والآخر ، فقد
كان كثيرا ما يحدث بالحديث في أكثر من مجلس ، فيروي كل صحابي ما سمعه في
ذلك المجلس ،
كما قد يكون السبب هو تكرر الحادثة في أكثر من مناسبة ، فيروي كل صحابي إحدى تلك المناسبات ،
وللاطلاع على أمثلة ذلك يمكن مراجعة رسالة صغيرة بعنوان: " أسباب تعدد الروايات في الحديث النبوي الشريف " للدكتور شرف القضاة.
والله أعلم .